🎬 فن ومشاهير

مصادفات وذكريات في معرض أبوظبي – أخبار السعودية

أخبار ذات صلة

 

في مدينةٍ تنضحُ بالأناقة والسكينة، كان لقائي مع أبوظبي أشبهَ بنزهة في ذاكرةٍ لم تكتمل. حضرتُ لتوقيع الطبعة الثانية من روايتي (ابنة ليليت) لكن ما جنيتُه هناك كان أعمق من توقيع، وأبعد من حكاية. رافقتُ صديقي الناشر هيثم حسين، في جولة بين أجنحة معرض الكتاب، نخوضُ بهو الكتب كمن يخوض في نهرٍ من المعاني، حتى توقفنا عند جناح باذخ الطلّة، أنيق كقصيدةٍ محبوكة: مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية. استقبلنا فيه رجل طاعن في الوقار، تعلو وجهه لحية بيضاء كأطراف السحاب، مُهذبة كما لو أنّها ترتل الصمت. بادره هيثم بالسلام، وناداه: «أبا هاشم». ارتجف الاسم في قلبي، كجذع نخلة هزّته ذاكرة قريش، فأطرقتُ احترامًا، وكأنني أمام سلالة التاريخ تمشي على قدمين. أهديتُه نسخة من الرواية، كنت أحتفظ بها لأحدهم، لكنها ذهبت لمن يستحقّها. وقّعتها، ثم غادرنا، وأنا أشعر أنّي سلّمت الكتاب إلى قارئ من زمنٍ آخر، زمنٍ قيمة الكتب فيه كما أثمان التحف.
لكن القصة لم تبدأ بعد.. ففي تلك الليلة، تلقيت دعوة عشاء من صديق إماراتي قديم، اسمه أحمد. أربعون عامًا تفصل بين لقاءينا، منذ جمعتنا مقاعد معهد اللغة الإنجليزية في بلدةٍ ساحلية جنوب بريطانيا تُدعى فاكوستون عام 1985. كانت الأيام هناك تمضي كأنها شريط سينمائي، بالأبيض والأسود، نركض فيه نحو الحياة دون دليل. التقينا في المعهد بشبابٍ خليجيين مبعوثين من خطوط الإمارات. بينهم شاب اسمه إبراهيم، شاعر في هيئة صامت، يكتب ملاحظاته في دفتر صغير، يجلس في الحدائق وحيدًا، كأنه يُصغي إلى الأشجار وهي تهمس بأسرارها. لم يكن يُرى في المطاعم أو المقاهي، لكنه كان يُرى في الشعر، كلما فتّحت القصائد نوافذها. ذات ليلة، اجتمعنا في مطعم صغير يُدعى لقروتا، فيه ركن للرقص لا يُغري إلا بالضحك. كنا أربعة: أنا، وأحمد، وجمال، وإبراهيم. وبينما نتجاذب الحديث ونغالب الضجر، صعدت من إحدى الطاولات فتاة كأنها خرجت من صفحة أسطورة. ترتدي فستانًا أبيض قصيرًا، شعرها يتدفق كسواد الليل، وعيناها كغيمتين متجاورتين على وشك المطر.. ما إن انتهت الرقصة وعادت الجميلة إلى مقعدها، بحراسة عيون من حضر الفقرة السحرية، لم يحتمل الشاعر أن يحضروا له ورقة، فسحب منديلًا ورقيًا من على الطاولة، أخرج قلمه، وكتب. نعم، كتب القصيدة فورًا، ومن قلب اللحظة. قرأها علينا، بصوت كأنه يسحب الكلام من صدر الغيم. كانت القصيدة جميلة، مغسولة بالموسيقى. طلبنا منه إعادتها، وأعادها مرارًا، حتى عدنا إلى بيوتنا، سكارى من خمرة الكلمات، نُردّد العنوان في الطريق: الجميلة ذات الرداء الأبيض. بعد ساعات، وبينما نجلس على مائدة العشاء في منزل صديقي أحمد في أبوظبي، تذكرنا أسماء الرفاق، واحدًا تلو الآخر، حتى جاء ذكر إبراهيم. قلت: «عجبًا، ما أخباره؟». فأجاب: «أتعلم أين هو اليوم؟ هو مدير مؤسسة العويس الثقافية». شهق هيثم، وقال: «هذا هو الذي كنا عنده اليوم! يا أبا يوسف». نظرت إليه بدهشة، وأنا أحاول ترتيب ملامح الذهول على وجهي، وقلت: «مستحيل!»، وفي اليوم التالي، غادرت أبوظبي نحو الرياض، أحمل في جيبي رقم هاتف إبراهيم الهاشمي، وفي قلبي قصيدة كُتبت على منديل ورقي.



Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
PHP Code Snippets Powered By : XYZScripts.com